ركزت جداتنا وأمهاتنا منذ القدم على أهمية تغذية الحامل، بيد ان العديد من الحوامل يهملن هذا الجانب، بل يعتقدن بأنها معتقدات قديمة، وبأن الطفل سيتغذى ويكبر في الرحم من دون حاجة لتغذية معينة من قبل الحامل.
ومن جانب آخر، أشار العديد من أطباء الحمل والولادة إلى ازدياد ظاهرة عدم رغبة بعض أمهات الجيل الحالي في زيادة أوزانهن أثناء الحمل، فيقللن من تناول الأطعمة خوفا من فقدان الرشاقة. بيد أن الأمر الذي لا بد ان يدركنه هو ان الأدلة العلمية والطبية تشير إلى الضرر الذي يلحقه سوء تغذية الحامل بصحة الجنين وقابلية الطفل للإصابة بأمراض مستقبلية، وهو جانب مهم لا بد من تنبيه الحامل له.
وعلى الرغم من أن بعض الأمهات يعتقدن ان ولادة طفل صغير الحجم والوزن ليست خطرة، بيد ان العلماء يشيرون إلى امكانية اصابة المولود بخطر يمتد على المدى الطويل، حيث جرى الربط بين سوء التغذية ونحافة المواليد وزيادة قابلية اصابتهم بعدة أمراض غير معدية في مرحلة متأخرة من العمر.
عوامل تؤثر في تكون الجنين
وبين كل من سيمون لانجلي ايفانز وسارة مكميلان من كلية العلوم البيولوجية في جامعة نوتينغهام البريطانية في دراسة تحليلية، ان تطور الجنين ونموه يكون حساسا جدا لأي تغيير في بيئة الرحم. فمن الممكن ان تسبب التغيرات البيئية اضطرابا في انقسام الخلايا أو حياتها، مما يؤدي إلى تغيير في نظام التطور الطبيعي لنضوج أعضاء وأنسجة الأجنة. وهناك عدة عوامل ومؤثرات تسبب اضطرابا وتغييرا في التطور الخلوي لأعضاء وأنسجة الجنين، من أهمها:
- عوامل غذائية.
-التوتر النفسي أو البيولوجي.
- عدم اتزان الإشارات الطبيعية الهرمونية ما بين الأم والجنين.
ومن الممكن ان ينسب لتأثير هذه العوامل أيضا حدوث الإسقاط ووفاة الأجنة. وعليه فمن المنطق ان نجادل ان حدوث احد هذه العوامل المسببة لاضطراب البيئة المحيطة بالجنين، يترتب عليه تطور ردة فعل تكيفية في آلية التطوير الخلقي لخلايا الجنين حتى تضمن استمرار وظائف أعضائه وأنسجته المهمة، وبالتالي البقاء على حياة الجنين.
كيف تحدث البرمجة؟
استنادا إلى ما ذكر، فبما ان التطور والنضوج يشمل تكوين الأعضاء الأساسية في صورة منظمة، فإن ردة الفعل التكيفية، في الغالب، ستسبب تغييرات طفيفة، لكنها دائمة في مسار تكوين الأنسجة ووظائفها (مثل تغير في عدد الخلايا أو نوعها أو الوحدة الوظيفية). وبالرغم من عدم ملاحظة اثر هذا التغيير منذ ولادة الطفل، لكن أثرها يكون واضحا في وقت متأخر من العمر، حيث يرفع من قابلية الإصابة بأمراض عدة. ويمكن ان يطلق على هذه الأثر مسمى «البرمجة» Programming لكون ردة فعل الأنسجة تسبب حدوث برمجة للوظائف الفسيولوجية والقابلية للمرض. واستنادا إلى دراسات معملية قامت بتقييم أثر النقص في تغذية الحيوانات أثناء الحمل على تطور الجنين، أن لها تأثير على تركيب الأعضاء المهمة مثل الكلية والبنكرياس.
كما تعتمد خصائص البرمجة على طبيعة الاضطراب وتوقيت التعرض له. فعلى سبيل المثال، وجد أن انخفاض البروتين في تغذية أناث فئران المختبر الحوامل يرتبط مع زيادة خطر ارتفاع ضغط الدم لدى أبنائهن مع تقدمهن في العمر. لكن دور التوقيت في قوة التأثير على «آلية البرمجة» ظهر جليا أيضا، حيث وجد ان حجم وقوة ردة الفعل البرمجية لزيادة قابلية الأطفال للإصابة بالمرض تكون اكبر إذا حدث النقص الغذائي خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من الحمل، فيما أن الأثر كان محدودا إن حدث نقص البروتين خلال الأشهر الأولى من الحمل. بينما تظهر أهمية الطبيعة الخاصة للعامل المؤثر من خلال الأدلة المشيرة إلى ان البرمجة للإصابة بضغط الدم مع تقدم العمر ترتفع كثيرا إن كانت تغذية الأم المنخفضة بالبروتين تتضمن كربوهيدرات على هيئة نشويات معقدة، فيما ينخفض الأثر كثيرا لو تضمن كربوهيدرات على هيئة غلوكوز (سكريات).
عامل خطر جديد
اشارت العديد من الدراسات إلى التأثير الدائم والقوي لكمية ونوعية التغذية المتناولة خلال فترة الحمل على آلية تطوير الأجنة لتسبب حدوث برمجة داخلية في أنسجتها تزيد من قابلية حدوث الاعتلالات المستقبلية.
فقد نبهت عدة أبحاث إلى بروز عامل خطر جديد يحدث أثناء تطور الجنين ويسبب الإصابة بالأمراض، خاصة أمراض شرايين القلب والسمنة والاضطراب الايضي (السكر وارتفاع الدهون الضارة وضغط الدم). ومن أشهر الدراسات تلك التي بينت وجود ارتباط ما بين نقص أو سوء التغذية أثناء الحمل مع ارتفاع خطر الإصابة بداء السكر وشرايين القلب والموت منها.
وأشار الباحث غودفري، إلى ارتباط معدل ضغط الدم في الأولاد الصغار بعلاقة مباشرة مع درجة سمنة الأم ونسبة الهيموغلوبين في دمها أثناء الحمل. وبالمنوال نفسه وجد ان ضغط دم الشباب (الرجال) ارتبط بعلاقة مباشرة مع مقدار تناول الحامل للبروتين الحيواني وارتبط عكسيا مع مقدار الكربوهيدرات التي تتناولها.
الخطر من انخفاض وزن الأجنة
من جانبها بينت عدة أبحاث قديمة، حللت بيانات النساء والرجال في الدول المتطورة، وجود ارتباط بين عوامل معينة في بداية التكوين والحياة مع قابلية الإصابة بداء السكر من النوع الثاني وأمراض القلب والشرايين بعد البلوغ، بحيث وجد ان العلاقة بين وزن الطفل وخطر الإصابة بالأمراض كان طرديا، فكلما قل الوزن ازداد الخطر.
وبينت دراسة سويدية تضمنت 15 ألف رجل وامرأة ولدوا ما بين 1915-1929، وجود ارتفاع ملحوظ بين الموت من جراء الإصابة القلبية (بخاصة السكتة) مع الولادة بوزن منخفض. ومقارنة بين من يعتبرون في المعدل المنخفض من وزن الولادة (معدل 2.95 كيلوغرام)، فإن المواليد ممن يعتبرون في المعدل المرتفع في الوزن (4.11 كيلوغرامات) كانوا %33 اقل عرضة للموت من أمراض القلب.
كما قيمت الدراسة العلاقة بين وزن المواليد مع قابلية إصابتهم بالنوع الثاني من السكر لتظهر نتائجها أن الزيادة في وزن المولود يرافقها انخفاض في الخطر، بحيث ان كل كيلوغرام زيادة في الوزن يرافقه انخفاض في الإصابة بالنوع الثاني من السكر بنسبة %25.
وللتنبيه فبعض الدراسات دلت على وجود ارتباط شرطي بين ارتفاع حدوث هذه الأمراض عند البالغين مع وجود عوامل جينية في المواليد ذوي الأوزان المنخفضة، وعليه فإن الجمع ما بين العامل الوراثي وانخفاض وزن المولود يسبب ارتفاع خطر الإصابة بها.
بنية المولود قد تدل على توقيت نقص التغذية
سوء التغذية، أو نقصها، خلال فترات معينة من الحمل من الممكن ان يشير أو يتنبأ لخصائص معينة في محدودية نمو الطفل. حيث بينت نتائج عدد من الدراسات ان الجنين الذي تعرض لنقص التغذية خلال الأشهر الثلاث الأولى من الحمل يتميز بشكل صغير بشكل عام، فيما ان نقص التغذية خلال الثلاثة أشهر الوسطى للحمل تتسم بجنين أصغر وأنحف. أما سوء التغذية في الثلاثة أشهر الأخيرة من الحمل فتسهم في تكوين جنين أقصر (طول اصغر لجزء الجسم العلوي) مقارنة بحجم الرأس الطبيعي، مما يدل على إن نمو الدماغ والرأس يعد أولية للنمو مقارنة بنمو البدن.
ولكن هذه المقترحات تم استسقائها جميعا من دراسات حيوانية، وعليه فلا يمكن إثباتها للبشر. بيد ان آلية سوء التغذية أثناء الحمل تم ربطها بشكل مثبت مع ارتفاع خطر الإصابة بالأمراض.
بنية المولود لها تأثير أيضا
بالإضافة لكون الانخفاض في وزن المولود يعد عاملا مهما للتنبؤ بقابلية اصابته بأمراض مع تقدمه في العمر، من الممكن ان تشير طبيعة تطور نمو الطفل في بداية حياته إلى ارتفاع قابليته للإصابة بمرض معين. فيمكن ان يستخدم مقياس النمو (الوزن/ الطول3) مؤشرا على مدى قابلية السمنة للطفل.
وبحسب ما بينته عدة دراسات، وجد أن الأطفال الذين اعتبروا عند الولادة من الفئة النحيفة، يعانون اضطرابا أو خللا في هضم الغلوكوز أثناء الطفولة مما يفسر ارتفاع احتمال إصابتهم بالسكر من النوع الثاني على المدى البعيد. كما ظهرت العديد من الدراسات التي اعتمدت على مقياس السمنة في الطفولة وربطته بخطر الإصابة بعدة أمراض. وبالإضافة للأمراض الايضية، جرى الربط بين كل من الإصابة بهشاشة العظام وبعض الأمراض النفسية، ببنية الطفل في بداية حياته.
لكن لا بد من الاشارة، بان انخفاض وزن المواليد لا يدل على انخفاض تغذية الأم فقط، بل قد يكون نتاج تأثير عدة عوامل. فمن المعروف ان تدخين الحامل والتوتر النفسي يسبب انخفاض وزن الجنين والمولود. بيد أن جميع الدراسات التي قامت على تقييم اثر وزن المواليد قامت بالربط ما بين نقص تغذية الحامل المسبب لانخفاض وزن المولود مع خطر ذلك على صحتهم مع تقدمهم في العمر.
الغذاء وجنس الجنين
تتداول النساء فيما بينهن نصائح حول نظام غذائي يسهم في تخصيب بويضة ذات جنس معين. ويشير بعض الأطباء إلى أن اتباع المرأة نظام حمية يركز على تناول نوع معين من الأطعمة قبل فترة الحمل بشهرين، يرفع من إمكانية تحديد جنس الجنين. ووفق الدراسات ثبت نجاح هذه الطريقة في كثير من الحالات. وينتج ذلك لكون بعض الأطعمة تستقطب الحيوانات المنوية الذكرية وأخرى الأنثوية، مما يرفع من فرصة تحديد إخصاب ينتج عنه جنس الجنين المفضل. وقد أيدت دراسة من واشنطن دور نوعية الغذاء الذي تتناوله المرأة في عملية اختيار جنس الطفل، وذلك من خلال تأثيرها في مستقبلات الحيوانات المنوية الموجودة على جدار البويضة، فعن طريقها تتمكن الفئة المفضلة من اختراق جدار البويضة وبالتالي يحدث التلقيح، حيث وجد ان زيادة نسبة عنصري الصوديوم والبوتاسيوم في الغذاء وانخفاض نسبة الكالسيوم والماغنسيوم يسببان تغيرات في جدار البويضة بما يجذب الحيوان المنوي الذكري ويستبعد الأنثوي، وهذا يرفع فرصة الحمل بالجنين الذكر. بينما يحدث العكس (الحمل بالجنين الانثى) عند ارتفاع نسبة الكالسيوم والماغنسيوم في الغذاء.
الرضاعة الطبيعية تحمي من الأمراض
تعتبر المرحلة الأولى من عمر الرضيع فترة حرجة وحساسة من الممكن ان تحدث خلالها برمجة خلوية ترفع قابلية الإصابة بالأمراض. وبات معروفا، تأثير تناول الحليب الصناعي (الرضاعة الصناعية) على زيادة خطر إصابة الأطفال بالسمنة وأمراض عدة مقارنة بمن يرضع من حليب الأم. ومن هنا بدأت العديد من المنظمات والجمعيات الصحية بالتركيز على أهمية الرضاعة الطبيعية خلال الاشهرالستة الأولى من عمر الطفل، أو لأطول مدة على الأقل خلال الأشهر الأولى.
لا بد من نشر الوعي
على الرغم من زخم الدراسات، فإن الآلية الكاملة التي يتم من خلالها تأثير تغذية الحامل على فسيولوجية وصحة الجنين والإنسان على المدى الطويل لا تزال غير مفهومة إلا جزئيا. ويعتقد البعض ان تأثير تغذية الحامل يتم من خلال برمجة الطفل على آلية معينة، بحيث تجري إعادة برمجة خلاياه. لكن الأمر الأهم، هو ضرورة ان يركز الأطباء، خصوصا أطباء الحمل والولادة، على نشر الوعي بين الحوامل بأن سوء التغذية يسبب برمجة جسد الطفل ليكون أكثر قابلية للإصابة بأمراض عدة مع تقدمه في العمر. كما يجب التركيز على ضرورة عدم إهمال الحامل للتغذية الصحية وتناول المكملات الغذائية (الفولات والجلايسين والكالسيوم)، بالإضافة إلى تكثيف التشجيع على الرضاعة الطبيعية.
تخصيب البويضة من دون حيوانات منوية
يقف طب العقم عاجزا عن إيجاد حل لبعض مشاكل الرجل، خصوصا عندما لا تتوافر لديه حيوانات منوية سليمة للإخصاب. بيد ان العديد من الأبحاث تجري حاليا في بريطانيا لوضع علاج لذلك من خلال استخدام خلايا أخرى في جسم الرجل ليتم أخذ موروثاتها الجينية أو استنساخها ومن ثم تلقيح البويضة بها. لكن هذه النظرية لا تزال قيد البحث والتجربة، واذا نجحت يمكن ان تصل للتطبيق الإكلينيكي خلال خمس سنوات.